حتى كتابة هذه السطور، ولليوم السادس على التوالي، يتواصل العدوان الإسرائيلي على غزة، ويستمر الصمود وإطلاق الصواريخ على تل أبيب والقدس ومناطق لم تصلها من قبل بالرغم من إعلان الحكومة الإسرائيليّة منذ اليوم الأول عن تصفيتها للبنية التحتيّة التي تجعل الفلسطينيين قادرين على إطلاق الصواريخ. في نفس الوقت تتواصل فيه الجهود المصريّة المدعومة أميركيًا وأوروبيًا وعربيًا من أجل التوصل إلى تهدئة، وبالرغم من أن جميع الاحتمالات مفتوحة؛ إلا أن مختلف الأطراف أبدت استعدادها للتوصل إلى تهدئة، وهذا يجعلها الاحتمال المرجح حتى الآن مع عدم استبعاد كلي لاحتمالات التصعيد.
قبل أن نتحدث عن تقييم مجمل العدوان الإسرائيلي، لا بد أولًا أن نشير إلى الأهداف الإسرائيليّة والفلسطينيّة حتى نستطيع الحكم على الطرف الذي سيخرج رابحًا والطرف الذي سيجر أذيال الهزيمة.
أرادت حكومة نتنياهو من العدوان ما يأتي:
أولًا. إعادة التزام الفلسطينيين بقواعد التهدئة التي تحققت بعد حرب الكوانين (2008 - 2009)، أي أن ترمم قوة الردع الإسرائيليّة التي تضررت من عودة الفلسطينيين إلى إطلاق الصواريخ بضوء أخضر من "حماس" أو عدم ممانعتها في البداية، ومن ثم بمشاركتها بإطلاقها فيما بعد. فقد احرِجت "حماس" من المعادلة التي تفرضها إسرائيل، وهي التزام "حماس" بالتهدئة وتحمل مسؤولياتها بصفتها السلطة القائمة على الفصائل الأخرى بمنعها من إطلاق الصواريخ، وإلا فستحاسب على ما يقوم به الآخرون. وأضافت إسرائيل شروطًا أخرى أثناء العدوان تتمثل في سحب سلاح المقاومة، ومنع تهريب السلاح إلى غزة، وتوفير ضمانات دوليّة لذلك.
ثانيًا. أرادت إسرائيل الاستفادة من حاجة النظام الجديد في مصر إلى التهدئة، وإلى أحسن العلاقات مع الإدارة الأميركيّة، لأن مصر في وضع سياسي واقتصادي وأمني حرج. فإسرائيل تريد أن تجس نبض الحكام الجدد في مصر، ورؤية إلى أي مدى سيذهبون لاسترضاء الإدارة الأميركيّة حتى يحصلوا على المساعدات والقروض الدوليّة، والأهم استمرار الاعتراف الأميركي بالحكام الجدد وجماعة الإخوان المسلمين، التي وصلت إلى الحكم في عدة بلدان، وقويّة في بلدان أخرى، لدرجة يمكن أن تصل إلى الحكم فيها أو في بعضها. وإذا أمكن، تريد إسرائيل أن تدفع الرئيس مرسي إلى رعاية وقف إطلاق نار جديد، وضمان الالتزام به على ذات القواعد السابقة، التي تفيد بأن ما يجوز لإسرائيل من حق في الاعتداءات والاغتيالات متى تشاء (حق المطاردة الساخنة الوارد في اتفاق أوسلو، التي تريد فرضه مرة أخرى على غزة) لا يجوز لغيرها.
ثالثًا. يريد نتنياهو بهذه الحرب أن تنقذه من أي غضب من أوباما في فترة رئاستة الثانية، لأنه أهانه أكثر من مرة أثناء فترة رئاسته الأولى، وانحاز لمنافسه رومني أثناء الحملة الانتخابيّة. ويبدو أن نتنياهو حقق ما أراد، ووجدنا الإدارة الأميركيّة تدافع عما وصفته بـ "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، وتمنع صدور قرار أو حتى بيان من مجلس الأمن يدين العداون الإسرائيلي، وتقدم مساعدات عسكريّة إضافيّة إلى إسرائيل لتطوير نظام القبة الحديديّة، وتعلن أنها ستؤيد أي قرار ستتخذه الحكومة الإسرائيليّة بتصعيد العدوان، مع أنها تفضل عدم الدخول في الحرب البريّة.
رابعًا. يريد نتنياهو فرض الأمن على أجندة الانتخابات المقبلة وزيادة فرصه بالفوز فيها، واستبعاد المواضيع الأخرى الاجتماعيّة والاقتصاديّة، لأنه حقق إنجازات ملموسة في الأمن.
خامسًا. هناك أهداف عسكريّة للعدوان، مثل تجريب الأسلحة الإسرائيليّة ومدى نجاعتها، خصوصًا نظام القبة الحديديّة، واستكشاف القدرات الفلسطينيّة والأسحلة الجديدة التي حصلت عليها.
أما أهداف "حماس" فهي تتلخص في:
أولًا. تأكيد الحق الفلسطيني المشروع في الدفاع عن النفس في مواجهة الاعتداءات والاغتيالات والتوغلات الإسرائيليّة.ثانيًا. الحفاظ على الحق الفلسطيني في مقاومة الاحتلال. ثالثًا. محاولة فرض قواعد جديدة تقوم على الاتفاق على وقف إطلاق نار متبادل، وليس من طرف واحد، خصوصًا أن "حماس" تجد الوضع العربي، وتحديدًا المصري، تغير لصالحها دون أن تقطف ثمارًا جديدة تتناسب مع هذا التغير. فالحصار المفروض على غزة لا يزال جوهريًا على حاله بالرغم من بعض التحسن، وأميركا وأوروبا اعترفتا بالحكام الجدد في المنطقة، وبالرغم من ذلك لم تغيرا موقفهما من "حماس"، بل المطلوب من الحكام الجدد ترويض "حماس" حتى تُقبل كطرف شرعي فلسطيني، وإذا لم تقبل يبقى الحصار على حاله.
ما حدث أن إسرائيل التي صعدت الوضع باغتيال أحمد الجعبري، قائد "حماس" العسكري، و"حماس" هذه المرة لم تبلع الأمر، فهي تراهن على أن الوضع تغير ولن تسمحَ العربُ هذه المرة بالاستفراد بالفلسطينيين، "فمش كل مرة تسلم الجرة". ولكن على "حماس" ألا تبالغ في توقعاتها، فهناك تغير قد حدث، ولكنه لم يكن شاملًا، بدليل ردود الفعل العربيّة الرسميّة التي كانت رمزيّة وسياسيّة ولم تستخدم أوراق القوة السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة، وأظهرت العرب مثل "النعاج" كما قال وزير الخارجيّة القطري بعظمة لسانه.
حتى غير المعجبين بقتال إسرائيل عبر الصواريخ نظرًا لعدم التكافؤ المطلق في القوة، وما يسببه ذلك من دمار ومعاناة للفسطينيين؛ اعترفوا بأن فصائل المقاومة الفلسطينيّة بشكل عام، و"حماس" والجهاد الإسلامي بشكل خاص، قد استفادوا من الحرب السابقة وحصلوا على أسلحة وخبرات جديدة ظهرت من خلال استهداف تل أبيب والقدس، بحيث أصبحت معظم مساحة إسرائيل، وليس الجنوب فقط، تحت مرمى الصواريخ الفلسطينيّة، وهذا يضرب نظريّة الردع الإسرائيليّة في الصميم. فهذه النظريّة تقوم على مبادئ، أهمها امتلاك زمام المبادرة من خلال: بدء الحرب وإنهائها بسرعة خاطفة، وبالوقت المناسب لإسرائيل، وإبقاء الجبهة الداخليّة بعيدة، والاحتفاظ بحق خرق أي اتفاق للتهدئة بأي وقت تراه دون أن يملك الطرف الفلسطيني نفس الحق.
إذا تم وقف إطلاق النار مع استمرار إطلاق الصواريخ على معظم إسرائيل حتى اللحظة الأخيرةـ، ولم يتم قبول شروط إسرائيل لوقف إطلاق نار جديد؛ فهذا يعني أن إسرائيل قد خسرت الحرب هذة المرة، لأنها بدأت فيها من أجل حماية جنوب إسرائيل من الصواريخ، وخرجت منها وإسرائيل كلها تقريبًا قد أصبحت تحت رحمة هذه الصواريخ.
وما يزيد من خسارة إسرائيل أن الفلسطينيين بالرغم من الانقسام كانوا موحدين ضد العدوان وليس مثل الحرب السابقة، فهناك صمود ومقاومة باسلة في غزة، وبوادر أوليّة لانتفاضة شعبيّة في الضفة، وتضامن شعبي فلسطيني شامل في جميع أماكن تواجد الشعب الفلسطيني داخل الوطن المحتل وخارجه. فشكرًا لحكومة نتنياهو التي وحدت الفلسطينيين ضدها في الحرب، ويمكن أن توحدهم بإنهاء الانقسام إذا التقطوا اللحظة المناسبة والمتمثلة بأن إسرائيل تحاربهم على كل الجبهات، ولا تميز مثل حكومة أولمرت السابقة، بين المعتدلين والمتطرفين، بين "فتح" و"حماس"، بين من يحاربها سياسيًّا وديبلوماسيًّا وبين من يحاربها عسكريًّا.
وهنا يأتي الدور المصري من خلال استغلال اللحظة الراهنة، وفرض الوحدة على الفلسطيينيين، ورفع الحصار عن غزة دون انتظار الإذن الأميركي والإسرائيلي، وإرسال رسالة واضحة بأن زمن أوّل حوّل. أما الاكتفاء بالإدانات والزيارات الرمزيّة لغزة والتسهيلات على معبر رفح، والتركيز على التهدئة؛ فلا تكفي لردع إسرائيل وجعلها تفكر مليون مرة قبل أن تفكر بمواصلة العدوان أو تصعيده.
هناك متغير حاسم حصل بعد الثورات والمتغيرات العربيّة، يتمثل في أن المواطن العربي أصبح يدرك أهميّة دوره وقدرته على التغيير، بحيث لم يعد الحاكم العربي الفرد قادرًا بقرار أن يقرر مصير بلد وأمة، فالشعب المصري يقف بالمرصاد ويضغط على النظام الجديد، لأن يثبت أن هناك نظام ما بعد الثورة وليس مجرد نسخة مطورة من نظام حسني مبارك. والمحك الموقف من القضيّة الفلسطينيّة، فلا يمكن بيعها أو إهمالها على مذبح البحث عن المصالح الفئويّة لحزب أو جماعة أو حكم، فلا يجب أن نكرر تجربة الحكام العسكريين والقوميين الذين لم يستطيعوا نصر فلسطين، لأنهم فضلوا التركيز على "الوحدة" أولًا، أو على تحقيق التوازن الإستراتيجي، أو - وهذا هو الصحيح- على مصلحة النظام والحزب على مصلحة الشعب والقضيّة القطريّة والقوميّة. على "حماس" و"فتح" أن تدركا أن لا طريق للخلاص الوطني أو حتى للاعتراف بـ"حماس" ولاستمرار دور "فتح" القيادي سوى الانضواء تحت مظلة الوحدة الوطنيّة على أساس وطني وديمقراطي وشراكة حقيقيّة بعيدًا عن التطرف والمغامرة والتخاذل والاستسلام.
[عن جريدة "السفير" اللبنانية]